أمام أفران ضخمة تلتهم الحرارة المرتفعة قطع الزجاج المكسور لتصهره، ليكون خامة طيعة فى يد الفنانة أفروديت السيسى تنفخ فيه من شغفها بحرفة تشكيل الزجاج اليدوى، التى تطرقها لأول مرة امرأة وهى الحرفة التى ظلت حكرا على الرجال منذ فجر الحضارة المصرية القديمة التى اكتشفتها عبر سنوات ما قبل الميلاد.
أفروديت السيسى لم تستسلم لتنميط المجتمع وغياب المساحة التى تسمح لها بالعمل فى الورش والمصانع، تحدث الرفض بل والطرد من صنايعية اعتبروا وجودها فى ورشة لصناعة الزجاج اليدوى الحرغير ملائم، لتصبح أول مصرية تعمل بتشكيل الزجاج، ونجحت فى تأسيس مشروعها الخاص «أفروديت جلاس آرت» لتقديم القطع الفنية المختلفة.
عن رحلة نجاحها بعد دراستها بكلية الفنون التطبيقة ثم حصولها على درجة الماجستير فى تقنيات نفخ الزجاج، تتحدث أفروديت السيسى لروزاليوسف، عن شغفها بصناعة الزجاج اليدوى والتحديات التى واجهتها.
كيف تكون شغفك بعالم تشكيل ونفخ الزجاج اليدوى؟
– أثناء الدراسة الجامعية، عندما التحقت بكلية الفنون التطبيقة بجامعة حلوان، وخلال مرحلة اكتشاف أقسام الكلية الأربعة عشر، جذبنى قسم الزجاج، وفُتنت بهذه الخامة التى تساءلت ماذا سندرس فيه؟! ولكن اكتشفت أن الزجاج يدخل فى مجالات عديدة وبدأ شغفى تجاهها يزداد مع الدراسة ليستمر إلى اليوم وأصبح أول امرأة تعمل فى مجال تشكيل الزجاج الحر فى مصر.
ما هى الصعوبات التى واجهتك كامرأة لممارسة هذه الحرفة اليدوية؟
– بعد حصولى على البكالوريوس، عملت لفترة فى مجال الحفاظ على الحرف التراثية اليدوية، ولكن كان شغفى يدفعنى لمزيد من الدراسة والتخصص فى هذه الحرفة وعندما قررت استكمال مرحلة الدراسات العليا واجهتنى المشكلة الحقيقية «البنات مبتتعلمش» «وجودك غير مرغوب فيه بمجال العمل نفسه» انتى بنت عايزة تقفى إزاى أمام أفران صهر الزجاج»، واكتشفت أن مجال تشكيل الزجاج اليدوى يسمح فقط بوجود كموظفة فى مكتب أو مصنع أو كفنانة مصمممة، ولكن لا يسمح لك العمل مع الصنايعية أمام الأفران، حاولت كثيرًا التغلب على هذا الرفض، لرغبتى فى اكتساب مهارة عملية من أرض الواقع فى التشكيل والوقوف أمام أفران صهر الزجاج لاستكمال الجانب النظرى الذى حصلت عليه بالكلية، ولكن قوبلت كل المحاولات آنذاك بالرفض وهو ما دفعنى للسفر للخارج لاستكمال هذه الخبرة المهنية.
وما الخبرات التى اكتسبتها من سفرك بالخارج وما هو وضع مصر حاليًا فى هذه الحرفة التى كانت الدولة الرائدة فيها؟
– بالبحث عثرت على عدد من المدارس المرموقة المتخصصة فى تعليم فن تشكيل الزجاج، وسافرت لإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وكانت هذه المدارس لا تشترط وجود حتى خبرة سابقة للطالب الراغب لدراسة فن تشكيل الزجاج، وتتلمذت على أيدى فنانين على النفخ اليدوى والوقوف أمام الأفران وتصميم وتطوير القطع المختلفة، يحزننى القول أنه رغم أن مصر هى الدولة الأولى التى اكتشفت صناعة الزجاج ولدينا أول فرن زجاجى فى تل العمارنة، إلا أنه مع مرور الزمن لم تتطور الصناعة فى مصر ووقفنا فى الزمن، بلا تطوير أو تحديث، وسبقتنا دول كأوروبا وحققت طفرات فى صناعة وتشكيل الزجاج، وأصبحنا نعتمد فى مصر على خبراء متخصصين من الأجانب يحضرون ويقومون بتدريبنا على مستجدات الحرفة، ولكن للأسف مازلنا لم نمتلك مدرسة تعلم أو تطور؟! ننتظر كل فترة ما يتركه الخبراء الأجانب لنا، ولكن لم نهتم بتطوير حرفتنا، وابتكار طرق جديدة للتشكيل والتصميم والزخارف فيها!
ولكن كيف تغلبت على هذه التحديات وأسست مشروعك الخاص «أفروديت جلاس آرت»؟
– لم أتمكن من تأسيس مصنع لأنه يحتاج لإمكانيات كبيرة، ولكن لدى ورشة تقفيل المنتجات وشركة جلاس آرت التى أقوم من خلالها بتسويق منتجاتى، ونستأجر ساعتين لثلاث مع بعض المصانع، وهذا حدث بعد فترة طويلة من الإقناع لأصحاب المصانع، لعدم تفهمهم لكيفية إنتاج ثلاث قطع فنية فقط فى الثلاث ساعات بينما يستطيع المصنع إنتاج 300 قطعة فى ذات التوقيت!، ولكن بالإصرار والمثابرة نجحت فى إقناع أصحاب المصانع تأجير هذا الوقت، وكذلك الصنايعية.
على ذكر الصنايعية.. كيف نجحت فى إدارتهم وقبولهم لأفكارك وتصميماتك المبنية على الدراسة والعلم؟
– لم يكن الأمر سهلا على الإطلاق، بل احتاج لوقت طويل لبناء هذه الثقة والعلاقة القائمة على التفاهم، فالعامل يعتقد أن وجودى كفنانة ومتخصصة يلغى وجوده، وهذا ما حاولت كثيرا على تغييره، والتأكيد أن كلا الطرفين بحاجة للتعاون والتكامل، لدى حوالى 10 – 15 عاملا تقريبًا فى الورشة، مسألة الاقتناع تختلف من عامل لآخر، منهم من يرى إمكانية التعلم وأن نضع أيدينا معًا والاستفادة من الخبرات التى أحملها بالدراسة والسفر، ومنهم لم يرغب فى وجودى تمامًا، بالمناسبة لن أخجل من ذكر أنه تم طردى أكثر من مرة من الصنايعية لعدم تقبلهم وجود امرأة فى هذه المهنة التى ظلت حكرا عليهم لسنوات، والبعض يراهن أني سأعانى ولن أحتمل حرارة الأفران وقسوة المهنة ولن أعود مجددًا ولكن يفاجأ الجميع بعودتى مرة ثانية وحماسى وإصرارى على العمل وهنا تتغير نظرتهم تمامًا ويبدأ العمل الجاد دون أحكام لكونى امرأة.
ما المنتجات التى تقومين بتصنيعها وهل جميعها فنية وكذلك نوع الخامات؟
– لا يشترط أن تكون قطعًا فنية فقط ولكن يمكن استخدامها فى المنزل أو المكتب مثل وحدات الإضاءة، وكذلك ننتج قطعًا فردية استثنائية وغيرها من الوحدات المستخدمة فى المنازل والمطاعم، نحتاج لاستيراد بعض الخامات ونظرًا لأزمات الاستيراد مؤخرًا، نواجه تأخيرا فى بعض الطلبات يصل أحيانا لشهور.
ماذا عن مخاطر حرفة تشكيل الزجاج والوقوف أمام الأفران لساعات طويلة وكيف تتغلبين عليها؟
تضحك «أى شغلانة فى الدنيا لها مخاطر حتى لو جلست على مكتب لمدة ثمانى ساعات «سأُعانى من آلام الديسك»، نحرص فى الورشة على اتخاذ جميع إجراءات السلامة، نرتدى النظارة لحماية العيون من رايش الزجاج، وكذلك البدلة لحماية أجسادنا، ونرتدى القفازات المخصصة للتعامل مع خامة منصهرة وساخنة، بالإضافة إلى الالتزام بشرب مياه كافية والحصول على كمية مناسبة من الأملاح والطعام لمواجهة درجات الحرارة المرتفعة للأفران. عندما سافرت للخارج وجدت فنانين يعملون بحرفة تشكيل الزجاج اليدوى وهم فى عمر الثمانين، إذن المسألة تعتمد على الالتزام بالإجراءات الاحترازية وهى ما تحمى العامل والفنان من أى إصابات أو أمراض مزمنة.
حدثينا عن مشروعك لتمكين النساء اقتصاديًا فى منشأة ناصر على إعادة تدوير الزجاج؟
– الزجاج خامة مدهشة، تحقق مفهوم التنمية المستدامة ببساطة، فمثلا لو قطعة زجاج تكسرت يمكن صهرها وإعادة تشكيلها وإنتاج قطعة جديدة منها، وكم سعدت بالتعاون مع جمعية «الحفاظ على البيئة» لإنشاء أول قسم لتدوير مخلفات الزجاج بمنشية ناصر ونجحنا فى تدريب 15 سيدة على مدار ثلاثة أشهر لإدارة القسم بالكامل من تجميع الزجاج ثم التنظيف ثم تشكيل وعمل تصميمات فريدة من مخلفات الزجاج.
والمشروع يعتمد على أفران كهربائية، فلا تحتاج السيدات للقيام بنفخ الزجاج أو الجلوس أمام افران، تحمل هذه الأفران قوالب على أشكال مختلفة كالصوانى أو الأطباق أو تكسير الزجاج لقطع صغيرة واستخدامه فى الحلى وهكذا، ويتم وضع الزجاج الذى تم جمعه من القمامة فى هذه الأفران والخروج بعد عملية صهره فى الأفران على هيئة الصوانى أو الأطباق أو ساعة أو مرايا إلخ، وهذا المشروع هدفنا فى تحقيق تمكين اقتصادى لنساء منشية ناصر ومساعدتهن على كسب دخل إضافى من خلال مشروع مستدام هدفه فى النهاية الحفاظ على البيئة أيضًا.
ونسعى أن تقوم الـ15 سيدة بتدريب نساء أخريات وبهذا تتحقق التنمية المستدامة للمشروع وألا تقف المعرفة والخبرة على شخص واحد.
قرأت عن مشاركتك فى عدة معارض داخل وخارج مصر، ماذا عن التفاعل الجماهيرى مع النحت الزجاجى؟
– بحاول من خلال هذه المعارض نشر فكرة أن الزجاج خامة غير تقليدية وجذابة ويمكن استخدامها فى إبداع تماثيل فنية أو مجسمات كبيرة، لأن الكثيرين يعتقدون أن الزجاج غير صالح لذلك، وأن النحت يعتمد على الخامات التقليدية فقط. وأستغل فرصة هذه المعارض لكسر الحاجز بين الجمهور وفن تشكيل الزجاج اليدوى.
فى رأيك روشتة الحلول للحفاظ على الزجاج اليدوى كحرفة تراثية؟
– الحرف اليدوية تعانى بشكل عام من التدهور والاهتمام مازال بها محدودا، والعديد من الورش الصغيرة تغلق أبوابها لانصراف العاملين عنها، وهذا يرجع مثلا لمشكلة مثل الطاقة، والخامات، فأى حرفة يدوية تعتمد على الطاقة سواء كهرباء أو غاز، فإذا لم توفر الدولة للورشة وللعامل الطاقة بسعر مناسب لن يستطيع الإنفاق على الخامات وأيضا على تطوير نفسه وحرفته، وعندما يجد المناخ صعبا والأسعار ترتفع يوميًا من الطبيعى أن ينصرف عن حرفته، ثانى مشكلات الحرف اليدوية التراثية هو غياب التطوير، أثناء عملى بمركز تطوير الصناعات، كان يتحدث الأجانب أن الصنايعى يقف فى مكانه منذ 20 سنة، لا يجدون تجديدا فى الحرفة، وأنه يقدم نفس التصميم ونفس الخامة، ومشكلة التطوير تعود بنا لذات النقطة هو أن العامل كيف سيطور نفسه فهو لا يستطيع اللحاق بالتطوير لأنه يعمل فى بيئة غير ملائمة، هو يشعر بالقلق على المصاريف التى ينفقها على كل العناصر سالفة الذكروخاصة مع أزمة الاستيراد الآن ونقص الخامات، لذا نحتاج فى النهاية لتوفير بيئة جاذبة وليست طاردة للعاملين بالحرف اليدوية، تساهم الدول فيها بدعم لهذه الحرف التراثية وحمايتها من الانقراض.
أخيرًا ما أحلامك لفن تشكيل الزجاج اليدوى؟
– حلمى تأسيس مدرسة لتعليم حرفة الزجاج اليدوى لكل الأعمار وخاصة للنساء، أرغب فى نقل تجربتى لهن، خاصة أن ليس كل الفتيات قادرات على السفر للحصول على كورسات بخارج مصر. أحلم ايضًا أن تستضيف مصر مؤتمر الزجاج العالمى الذى ينعقد سنويًا، وتستعرض فيه كل دولة إنتاجها فى هذه الحرفة، سيكون المؤتمر فرصة جيدة للاطلاع على خبرات الآخرين، وحضور ورش عمل مع الفنانين واكتشافهم مدارسهم المختلفة لتشكيل الزجاج الحر.
أتمنى أن تعود مصر على خريطة هذه الحرفة التراثية التي عرفتها مصر كأول دولة فى العالم، ونتبادل الخبرات والعلم من أجل النهوض بفن تشكيل الزجاج من أجل حماية هذه الحرفة من الاندثار.
هاجر عثمان
روزا اليوسف